سورة النمل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إسرائيل}؛ يُبين لهم {أكثرَ الذي هم فيه يختلفون} من أمر الدين الذي اشتبه عليهم. ومن جملة ما اختلفوا فيه: المسيح، وتحزّبوا فيه أحزاباً، وركبوا متن العند والغلو في الإفراط والتفريط، ووقع بينهم المناكرة في أشياء، حتى لعن بعضُهم بعضاً. وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه، لو أنصفوا وأخذوا به، وأسلموا. يريد اليهود والنصارى، وإن كانت الآية خاصة باليهود. {وإنه}- أي: القرآن {لهُدىً ورحمةٌ للمؤمنين} على الإطلاق، فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولاً أولياً.
{إنَّ ربك يقضي بينهم} أي: بين بني إسرائيل، أو: بين من آمن بالقرآن ومن كفر به، {بحُكْمِه} أي: بعدله؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل، فسمى المحكوم به حكماً. أو: بحكمته، ويدل على قراءة من قرأ {بِحِكَمه}: جمع: حِكمة؛ لأن أحكامه تعالى كلها حِكَم بديعة. {وهو العزيزُ}، فلا يُردّ حُكمه وقضاؤه، {العَليمُ} بجميع الأشياء، ومن جملتها: من يقضي له ومن يقضي عليه. أو: العزيز في انتقامه من المبطلين، العليم بالفصل بين المختلفين.
{فتوكلْ على الله}، الفاء لترتيب ما قبله من ذكر شؤونه- عز وجل- فإنها موجبة للتوكل عليه، داعية إلى الأمر به، أي: فتوكل على الله الذي هذا شأنه. وهذه أوصافه، فإنه موجب لكل أحد يتوكل عليه، ويفوض جميع أموره إليه. أو: فتوكل على الله ولا تُبالي بأعدادء الدين. {إنك على الحق المبين}، تعليل للأمر بالتوكل بأنه الحق الأبلج، وهو الدين الواضح الذي لا يتطرقه شك ولا ريب.
وفيه تنبيه على أن أصحاب الحق حقيق بالوثوق بالله في نصرته. وقد تضمنت الآية من أولها ثناء على القرآن، بنفي ما رموه من كون أساطير الأولين. ثم وصفه بكونه هدى ورحمة للمؤمنين. ثم توعد الرامين له بحُكمه عليهم بما يستحقونه، ثم أمره بالتوكل عليه في كفايته أمرهم ومكرهم.
ثم بيّن سبب طعنهم في القرآن، بأنهم ليس فيهم قابلية الإدراك؛ لكونهم موتى صماً، لا حياة لهم ولا سمعَ استبصار، قال تعالى: {إنك لا تُسمع الموتى}، شُبِّهوا بالموتى لعدم تأثرهم بما يُتلى عليهم من القوارع والزواجر، {ولا تُسمِع الصمَّ الدعاءَ} أي: الدعوة إلى أمر من الأمور {إذا وَلَّوا مدبرين} عنك. وتقييد النفي بالإدبار؛ لتكميل التنبيه وتأكيد النفي، فإنهم مع صمَمهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي، مولون على أدبارهم. ولا ريب أن الأصم لا يسمع الدعاء، مع كون الداعي بمقابلة صماخة، قريباً منه، فكيف إذا كان خلفه بعيداً منه؟.
{وما أنت بهادي العُمى عن ضلالتهم} هدايةً موصلةً إلى المطلوب، كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]؛ فإن الاهتداء منوط بالصبر في الحس، وبالبصيرة في المعنى. ومَن فقدهما لا يتصور منه اهتداء، و {عن} متعلق بهادي؛ باعتبار تضمنه معنى الصرف، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية. {إن تُسْمِعُ} أي: ما تُسمع سماعاً يجدي السامع وينفعه {إلا من يؤمن بآياتنا} أي: من عَلِمَ الله أنهم يؤمنون بآياته. {فهم مسلمون}؛ مخلصون، من قوله: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} [البقرة: 112] أي: جعله سالماً لله خالصاً. جعلنا الله ممن أسلم بكليته إليه. آمين.
الإشارة: إذا وقع الاختلاف في الأحكام الظاهرة، وهي ما يتعلق بالجوارح الظاهرة، رُجع فيه إلى الكتاب العزيز، أو السُنَّة المحمدية، أو الإجماع، أو القياس، وإن وقع الاختلاف في الأمور القلبية، وهي ما يتعلق بالعقائد التوحيدية، من طريق الأذواق أو العلوم، يُرجع فيه إلى أرباب القلوب الصافية، فإنه لا يتجلى فيها إلا ما هو حق وصواب. فلا يمكن قلع عروق الشكوك والأوهام، والوساوس من القلوب المُسوسة، إلا بالرجوع إليهم وصحبتهم، ومن جمع بين الظاهر والباطن، رجع إليه في الأمرين معاً.
ذكر ابن الصباغ أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنه كان يُناظر جماعة من المعتزلة، ليردهم إلى الحق، فدخل عليه رجل من القراء، يُقال له: أبو مروان، فسلَّم عليه، فقال له الشيخ: اقرأ علينا آية من كتاب الله، فأجرى الله على لسانه، من غير قصد، قوله تعالى: {فتوكل على الله إنك على الحق المبين} إلى قوله: {ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون} فتهلل وجه الشيخ، وقال: ما بعد بيان الله من بيان، فتابوا واهتدوا إلى الحق، ورجعوا عن مذهبهم، وشفا الله قلوبهم من مرض الاعتزال. فهذا شأن العارفين بالله، جعلهم الله شفاء من كل داء، لكن الأعمى والأصم لا يُبصر الداعي، ولا يَسمع المنادي. ولذلك قال تعالى: {فإنك لا تُسمع الموتى..} إلخ: قال الورتجبي: الميت: من ليس له استعداد لقبول المعرفة الحقيقية بغير الدلائل، والأصم: من كان أذن قلبه مسدودة بغواشي القهر، ومن كان بهذه الصفة لا يقبل إلا ما يليق بطبعه وشهواته. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: {وإذا وقع القولُ عليهم} أي: وقع مصداق القول الناطق بمجيء الساعة، بأن قَرُب إتيانها، وظهرت أشراطها، فأراد بالوقوع: دنوه واقترابه، كقوله: {أتى أَمْرُ الله...} [النحل: 1] رُوي أن ذلك حين ينقطع الخير، ولا يُؤمر بمعروف ولا يُنهى عن منكر، ولا يبقى منيب ولا تائب. و {وقع}: عبارة عن الثبوت واللزوم، وهذا بمنزلة: {حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} [الزمر: 19] أي: وإذا انتجز وعد عذابهم التي تضمنه القول الأزلي، وأراد أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب، أخرج لهم دابة من الأرض. وفي الحديث: «إن الدابة، وطلوع الشمس من المغرب، من أول الأشراط».
فلا ينبغي لهؤلاء الكفرة ترك الإيمان حيث ينفعهم، ويتطلبون وقوع الساعة الموعود بها، التي لا ينفع الإيمان لمن لم يكن آمن، مع ظهور مقدماتها، فضلاً عنها. فإذا وقع الوعد وَسَمَت الدابة مَن لم يؤمن بِسمة الكفر، وكان ذلك طبعاً وختماً، فلا يقبل منه إيمان، ويقال له: أيها الكافر لم تؤمن بالآيات غيباً، فلا يقبل منك بعد رؤيتها عيناً وهذا معنى قوله: {أخرجنا لهم دابةً من الأرض}، وهي الجساسة، طولها ستون ذراعاً، لا يدركها طالبٌ، ولا يفوتها هاربٌ، لها أربع قوائم، وزغب، وريش، وجناحان. وقيل: لها رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن أيّل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هرّة، وذنب كبش، وخف بعير، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً، تخرج من الصفا فتكلّمهم بالعربية فتقول {أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} أي: بخروجي؛ لأن خروجها من الآيات، وتقول: ألا لعنة الله على الظالمين.
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: «تأتي الدابة المؤمن، فتُسلم عليه، وتأتي الكافر فتخطه- أي تسمه- في وجهه». وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَخْرُجُ الدَّابةُ مَعها خاتمُ سُليمانَ، وعَصا مُوسى، فتَجْلُو وَجْهَ المُؤمِن، وَتَخْتُم أنْفَ الكافِر بالخاتَم ختَّى أَنَّ أَهْلَ الحِواء مجْتَمِعُون فيقول: هاها يا مُؤمْن ويقول: هاها يا كافِرُ» وهي بعد نزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وإذا وقع القول على قوم بإسدال الحجاب، وإدامة غلق الباب، أخرج لهم جاهل بالله، يكلمهم بادعاء التربية، فيأخذون عنه، ويقتدون به. قال في المباحث:
واعلم بأن عُصبة الجُهال *** بهائم في صور الرجال
فالجاهد بالله دابة في الأرض: أنَّ الناس كانوا بآياتنا الدالة علينا- وهم العلماء بالله، أهل الشهود والعيان- لا يُوقنون بوجودهم، ولا يعرفون وجود الخصوصية عندهم. فإذا أراد الله تعب عبد، وإبقاءه في غم الحجاب، ألقاه إلى شيخ جاهل بالله، أو: إلى ميت يتخذه شيخاً، ويفنى محبته، فلا يرجى فلاحه في طريق الخصوصية، ما دام مقيداً به، فإن تركه واقتدى بالعارف الحي، فقد هيأه لرفع الحجاب. وبالله التوفيق.


قلت: {ماذا} تأتي على أوجه؛ أحَدُها: أن تكون ما: استفهاماً، و ذا: إشارة نحو: ماذا التواني. الثاني: أن تكون ما: استفهاماً، و ذا: موصولة، كقول لبيد:
ألا تَسْأَلانِ المرْءَ ماذا يُحاوِلُ *** أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلالٌ وباطِلُ
الثالث: {ماذا} كله: استفهام على التركيب، كقولك: لماذا جئت؟. الرابع: أن تكون {ماذا} كله: اسم جنس بمعنى شيء أو: بمعنى الذي كقوله: دعني ماذا علمت؟، وتكون ذا زائدة. انظر القاموس.
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {يوم نحشُرُ من كل إمةٍ فوجاً}، الفوج، الجماعة الكثيرة. و {مِنْ}: للتبعيض، أي: واذكر يوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة {ممن يُكَذِبُ بآياتنا}، {مِن}: لبيان الفوج، أي: فوجاً مكذبين بآياتنا، المنزلة على أنبيائنا، {فهم يُوزَعُون}: يُحبس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا، حين يُساقون إلى موضع الحساب. وهذه عبارة عن كثرة العدد، وتباعد أطرافهم، والمراد بهذا الحشر: الحشر للعذاب، والتوبيخ والمناقشة، بعد الحشر الكلي، الشامل لكافة الخلق.
وعن ابن عباس: (المراد بهذا الفوج: أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة، يُساقون بين يدي أهل مكة) وهكذا يُحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار.
{حتى إِذا جاؤوا} إلى موقف السؤال والجواب، والمناقشة والحساب، {قال} أي: الله عز وجل، موبخاً لهم على التكذيب: {أَكَذَّبتم بآياتي} المنزلة على رسلي، الناطقة بلقاء يومكم، {و} الحال أنكم {لم تُحيطوا بها علماً} أي: أكذبتم بها في بادئ الرأي، من غير فكر، ولا نظر، يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق حتماً. وهذا نص في أن المراد بالآيات في الموضعين هي الآيات القرآنية. وقيل: هو عطف على كذبتم، أي: أجمعتم بين التكذيب وعدم التدبر فيها. {أم ماذا كنتم تعملون}؟ حيث لم تتفكروا فيها، فإنكم لم تُخلقوا عبثاً. أو: أيُّ شيء كنتم تعملون، استفهام، على معنى استبعاد الحجج، أي: إن كانت لكم حجة وعمل فهاتوا ذلك. وخطابهم بهذا تبكيت لهم. ثم يُكبون في النار، وذلك قوله تعالى: {ووقع القولُ عليهم} أي: حلَّ بهم العذاب، الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله ونزوله، {بما ظَلموا}: بسبب ظلمهم، الذي هو تكذيبهم بآيات الله {فهم لا ينطقون}؛ لانقطاعهم عن الجواب بالكلية، وابتلائهم بشغل شاغل من العذاب الأليم، يشغلهم العذاب عن النطق والاعتذار.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث، وما ينشأ بعد ذلك، بقوله: {ألم يروا أنَّا جعلنا الليلَ ليَسكُنوا فيه}، الرؤية هنا قلبية، أي: ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالنوم والقرار.
{والنهارَ مبصراً} أي: يُبصروا، بما فيه من الإضاءة، طرق التقلب في أمور المعاش. وبولغ فيه، حيث جعل الإبصار الذي هو حال الناس، حالاً له، ووصفاً من أوصافه، بحيث لا ينفك عنها، ولم يسلك في الليل هذا المسلك؛ لأن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير النهار في الإبصار. قاله أبو السعود. قلت: وقد جعله كذلك في قوله: {وَجَعَلَ الليل سَكَناً} [الأنعام: 96] فانظره.
{إنَّ في ذلك لآياتٍ} كثيرة {لقوم يؤمنون}؛ يُصدِّقون، فيعتبرون، فإنَّ من تأمل في تعاقب الليل والنهار، واختلافهما على وجوه بديعة، مبنية على حِكَمٍ رائقة، تحار في فهمها العقول، وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل، المحاكية للموت، بضياء النهار، المضاهي للحياة، وعاين في نفسه غلبة النوم، الذي هو يضاهي الموت، وانتباهه منه، الذي هو يضاهي البعث، قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
قال لقمان لابنه: يا بُني إن كنت تشك في الموت فلا تنم، فكما أنك تنام قهراً؛ كذلك تموت، وإن كنت تشك في البعث فلا تنتبه، فكما أنك تنتبه بعد نومك؛ كذلك تُبعث بعد موتك. اهـ. وبالله التوفيق.
الإشارة: يوم نَحشر من كل أمة فوجاً يُنكر على أهل الخصوصية، ممن يكذب بآياتنا، وهم العارفون بنا، الدالون علينا، المعرِّفون بنا، فهم يُوزعون: يُجمعون للعتاب، حتى إذا جاؤوا إلينا بقلب سقيم، قال: أكذَّبتم بأوليائي، الدالين على حضرتي، بعد التطهير والتهذيب، ولم تُحيطوا بهم علماً، منعكم من ذلك حب الرئاسة والجاه، أم ماذا كنتم تعملون؟. ووقع القول عليهم بالبقاء مع عامة أهل الحجاب، فهم لا ينطقون، ولا يجدون اعتذاراً يُقبل منهم. ألم يعلموا أنهم يموتون على ما عاشوا عليه، ويُبعثون على ما ماتوا عليه، فهلاّ صحبوا أهل اليقين الكبير،- وهو عين اليقين أو حق اليقين المستفاد من شهود الذات الأقدس- فيكتسبوا منهم اليقين، حتى يموتوا على اليقين ويُبعثوا على اليقين. وبالله التوفيق.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9